اقتباساتالأدب والثقافة

نحو مقاربة سيميوطيقية جديدة

(السيميوطيقا الأسلوبية)

د. جميل حمداوي

المصدر موقع ألوكة

التمهيد:

يمكن الحديث عن مجموعة من المقاربات السيميوطيقية التي تعاملت مع النص الأدبي في القرن العشرين. فهناك سيميوطيقا الأشياء أو الفعل مع كريماص (Greimas)، وسيميوطيقا الذات مع جان كلود كوكي ( Jean Claude Coquet)، وسيميوطيقا الأهواء مع جاك فونتاني (Fontanille) وكريماص (Greimas)، وسيميوطيقا التوتر مع جاك فونتاني(Fontanille) وزلبربيرج (Zilberberg)… وسيميوطيقا التلفظ مع إميل بينيفنست(E.Benveniste)، والسيميوطيقا الاجتماعية مع كريماص (Greimas)، وفلوش (Floch)، ولاندوفسكي (Landowski)، ومارون (Maronne)، ومارسياني(Marsciani)، والسيميوطيقا الأخلاقية والسلوكية مع أميسين (J.C.Ameisen)، والسيميوطيقا النصية مع أمبرطو إيكو (U.Eco)، والسيميوطيقا الأسلوبية مع جورج مولينيي (G.Molinié)…

 

هذا، وتنصب السيميوطيقا الأسلوبية عند جورج مولينيي على أدبية الأدب أكثر من تركيزها على أسلوب النص الأدبي. ومن ثم، فمقاربة جورج مولينيي مركبة من شقين منهجيين أساسين هما: الأسلوبية والسيميوطيقا. أي: أدمج مولينيي المستوى الأسلوبي في المنهجية السيميوطيقية التحليلية، بعد أن كان التحليل السيميويطيقي، مع مدرسة باريس، تعنى بالدلالة السيميوطيقية على مستوى السردية وعملية القص.أما ماهو أسلوبي وتلفظي، فقد كان عنصرا ثانويا، لايدرس إلا في مستوى الظاهر النصي مع مكونات أخرى، مثل: الأحداث والشخصيات والفضاء.

 

إذاً، ما السيميوطيقا الأسلوبية؟ وما مقوماتها النظرية والتطبيقية؟ وما مرتكزاتها المنهجية إن نظرية وإن تطبيقا؟ وما مميزات هذه المنهجية إيجابا أو سلبا؟ تلكم هي أهم الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في موضوعنا هذا.

 

تعريف السيميوطيقا الأسلوبية:

ليس الغرض الأول من هذه المقاربة هو دراسة أسلوب النص، كما هو شأن الأسلوبية اللغوية والوصفية مع بالي (CH.Bally) وبوفون (Buffon) وبيير غيرو(P.Guiraud)…، بل الهدف هو دراسة أدبية الأدب، وغربلة مجموعة من الأفكار الجمالية، ورصد دلالة الأشكال الأدبية والفنية والجمالية، و استجلاء البعد التواصلي السيميوطيقي للفن الإستيتيقي. وهذا بطبيعة الحال، يوصلنا إلى فكرة النشوة أو اللذة أو الشبقية التي تجمع المتلقي والنص الأدبي ضمن علاقة جنسية تفاعلية بالمعنى الوهمي أوالمجازي. كما تهدف هذه المقاربة إلى تصنيف الأدبية إلى أنواع متدرجة من العام إلى الخاص، وهي: الأدبية العامة، والأدبية النوعية، والأدبية الخاصة. كما ترصد السمات الأسلوبية التي تميز كل أدبية على حدة.

 

هذا، وتدرس الأسلوبية الكتابة الأدبية بتبيان خصائصها اللسانية: الصوتية، والإيقاعية، والصرفية، والمقطعية، والتركيبية، والبلاغية، والتداولية، والنصية، بغية استكشاف المعنى الدينامي للنص واستجلائه. ومن ثم، لايحقق النص الأدبي وجوده المادي بالمضمون أو المحتوى فحسب، بل يتحقق دلاليا وواقعيا ببعده التواصلي الذي يجمع بين المرسل (الكاتب) والمخاطب (المرسل إليه)، اللذين يتجمعان حول النص الأدبي في إطار عملية جنسية انتشائية. ويعني هذا أن النص الأدبي لاحقيقة له وجوديا وميدانيا إلا بالكتابة من قبل المبدع، وتقبله وقراءته من قبل القارئ الواقعي أو الافتراضي. ويعني هذا كله أن السيميوطيقا الأسلوبية تجمع بين ثلاثة مكونات منهجية: الأسلوبية، والسيميوطيقا، وجمالية التلقي أو التقبل. وبهذا، تكون السيموطيقا الأسلوبية هي التي ترتكز على تلقي الأعمال الأدبية، ورصد آثارها الفنية والجمالية والتأثيرية، ووصف تنظيم الطبقات التلفظية التي يبنى عليها هذا النص في لحظة معينة، مع تحليل العلاقة الموجودة بين هذا التنظيم و الأدبية. كما تهدف هذه السيميوطيقا إلى قياس مختلف المواقف والردود والآثار التي يتركها العمل الأدبي و الفني والجمالي نفسيا واجتماعيا وأدبيا ونقديا وإعلاميا.

 

وعلى العموم، تعنى السيميوطيقا الأسلوبية برصد مختلف السمات الأسلوبية والشكلية والفنية والجمالية واللسانية والتقبلية التي تميز نصا أدبيا عن غيره من النصوص. كما أنها مقاربة تأويلية تهتم بمختلف التأويلات التي يقوم يدلي بها المتلقي أثناء إعادة بناء النص المعطى، والتفاعل معه لذة وشبقية وانتشاء.

 

مقومات السيميوطيقا الأسلوبية:

تنبني المقاربة السيميوطيقية الأسلوبية على مجموعة من المقومات الجوهرية التي يمكن حصرها في النقط التالية:

1- التركيز على أدبية النص الأدبي في الدرجة الأولى.

2- الاهتمام بالجوانب الأسلوبية داخل النص الأدبي في الدرجة الثانية.

3- التفكير حول علم الجمال أو الإستيتيقا.

4- البحث عن دلالة الأشكال الأدبية.

5- رصد لذة النص الجنسية والجسدية، ووصف الانتشاء الذي يحققه المتقبل عبر فعل القراءة.

6- وضع نظرية سيميوطيقية عامة للفن اللفظي وغير اللفظي أسلبة وسميأة وتأويلا.

7- تصنيف النصوص الأدبية، واستجلاء مكوناتها التجنيسية وخصائصها الفنية والجمالية، سواء أكانت عامة أم خاصة أم فردية.

8- وضع سيميوطيقا عامة للثقافة والكون الثقافي والإيديولوجي.

9- الانطلاق من الفكر الجسدي والرؤية المادية الحسية في تبيان العلاقة الجامعة بين الأطراف الثلاثة: المبدع والمتلقي والنص الأدبي.

10- التعامل مع التجربة الجمالية باعتبارها وحدة وجودية كلية، وتجربة جوهرية عميقة تحمل في طياتها رؤية للعالم والثقافة والإيديولوجيا.

 

السياق التاريخي للمقاربة:

ظهرت السيميوطيقا الأسلوبية (Sémiostylistique) في 1990م مع جورج مولينيي (Georges Molinié) الذي اشتهر بمجموعة من الدراسات الأسلوبية تعريفا وتقعيدا وتطبيقا، من بينها: الأسلوبية[1]، ومعجم الأسلوبية[2]، والسيميوطيقا الأسلوبية[3]، ومقاربات التقبل[4]، والهرمسية المحرفة أو نحو هرمينوطيقا مادية[5].

 

هذا، وقد أدمج جورج مولينيي الأسلوبية ضمن السيميوطيقا العامة للثقافة المعاصرة. وتعني الأسلوبية عنده تمثلا ثقافيا لأنظمة القيم الجمالية والأنتروبولوجية.

 

هذا، وتعد السيميوطيقا الأسلوبية من الدرجة الثانية مقارنة بالسيميوطيقا السردية عند كريماص ومدرسة باريس، فهي تهتم بدراسة النص الأدبي باعتباره نتاجا خطابيا أساسه العلاقة الجامعة بين المرسل والمتلقي. ويعني هذا أن هذه المقاربة السيميائية الجديدة قد تأثرت كثيرا بنظرية جمالية التلقي التي تركز على المتلقي أو القارئ المثالي أو الافتراضي، كما هو جلي نظرية وتطبيقا عند رولان بارت(R.Barthes)، وميشيل ريفاتير(M.Rifaterre)، وميشيل شارل(M.Charles)، وإيزر (Izer)، ويوس(Yauss)… بيد أن السيميوطيقا الأسلوبية لا تغض الطرف عن فرادة الأسلوب عند المبدع، بل تشركه مع المتلقي في بناء الدلالة النصية الكلية.

 

وعليه، فلقد ظهرت السيميوطيقا الأسلوبية في مرحلة ما بعد الحداثة. لذا، فهي تنفتح على مجموعات من التصورات المعرفية واللسانية والفلسفية والأدبية. وبذلك، تتجاوز المقاربة البنيوية الحداثية التي أقصت الذات، والمتلقي، والمرجع…

 

هذا، وثمة مجموعة من الدراسات الأكاديمية والبحوث التطبيقية التي تمثلت السيميوطيقا الأسلوبية، وقد كانت تحت إشراف جورج مولينيي أو غيره، أو تمتح من تصوراته النظرية والمنهجية جزئيا أو كليا، وقد أنجزت هذه الأعمال في الجامعات الغربية سيما الفرنسية منها، ويصعب عدها نظرا لكثرتها ووفرتها وتناولها لمختلف الفروع والحقول الفكرية و المعرفية والمنهجية (الأدب، والتلفزة، والموسيقى، والمسرح…). وقد طبقت في مجال الأدب على مجموعة من النصوص الشعرية والروائية والقصصية والدرامية والفنية نظرية وتطبيقا.

 

أما في الحقل الثقافي العربي، فمازالت هذه المنهجية غير معروفة – بشكل من الأشكال – لدى الباحثين والنقاد والدارسين العرب، على الرغم من بعض الدراسات النظرية والتطبيقية التي أنجزت هنا وهناك، خاصة في دول المغرب العربي.

 

المصادر والمرجعيات النظرية:

تستند السيميوطيقا الأسلوبية لجورج مولينيي إلى عدة مراجع نظرية ومصادر معرفية ونقدية ولسانية، تتمثل بالخصوص في ما كتبه سميوطيقيو مدرسة باريس (كريماص، وجوزيف كورتيس، وجان كلود كوكي، وجاك فونتانيي…)، وما كتبه رولان بارت عن لذة النص، دون نسيان الكتابات التنظيرية لكل من: ميشيل ريفاتير، وميشيل شارل، وآيزر، ويوس… حول جمالية القراءة وبلاغتها وسيميائيتها. علاوة على الكتابات اللسانية والأسلوبية والبنيوية الشعرية، كما يبدو ذلك جليا عند رومان جاكسبون (R.Jakobson)، وإميل بنيفينست (E.Benveniste)، ولوي هلمسليف (L.Hjelmeslev)، وميشيل ريفاتير (M.Rifaterre)، وكايت هامبورغر (K.Hamburger)، وتزتيفان تودوروف(T.Todorov)…

 

وعلى العموم، تمتح السيميوطيقا الأسلوبية تصوراتها النظرية ومفاهيمها التطبيقية من اللسانيات، والأسلوبية، والسيميوطيقا، والفلسفة، والتأويلية، والتفكيكية، وجمالية التقبل. وتستعين أيضا بآراء النظرية المادية الثقافية عند أدورنو (Adorno)، حينما تتحدث هذه المقاربة عن العالم والمجتمع المدني والعالم المتطرف، وتستلهم كذلك الكتب الدينية المقدسة، خاصة نصوص القبالا والتوارة، بله عن تمثل جمالية والتر بنجامين (W.Benjamin)، والاستفادة من الأبحاث الدلالية لدى فرانسوا راستيي (François Rastier)…

 

التصور النظري:

ترتكز السيميوطيقا الأسلوبية على مجموعة من المبادئ النظرية التي يمكن حصرها في التصورات التالية:

1- السيميوطيقا إرسال وتقبل: يرى جورج مولينيي أن السيميوطيقا لها وظيفة مزدوجة. فهي من ناحية تهتم بإجراءات الإرسال التي تحيلنا على المتكلم أو المرسل أو السارد في النص أو الخطاب الأدبي. ومن ناحية أخرى، تعنى بعملية التقبل أو التلقي المتعلقة بالمخاطب أو القارئ الضمني أو الحقيقي، مع رصد العملية التفاعلية التي تتم بين المرسل والمتلقي حول الموضوع النصي.

 

2- الأسلوب هي سمات أسلوبية: يعرف جورج موليني الأسلوب بأنه عبارة عن مجموعة محددة من السمات والمؤشرات الأسلوبية التي تعبر عن مضامين النصوص التي تتكون من عناصر خارجية غير لغوية، مثل: الرؤية للعالم، أو الرؤية الثقافية، أو الرؤية الإيديولوجية والمرجعية… ومن ثم، فالسمات الأسلوبية هي وظائف أو ترابطات بين العناصر اللغوية من طبيعة مختلفة. ويتم هذا الترابط عبر صيغة تفاعلية دينامية، وغالبا ما يتم الربط بين الدلالة والصيغ التعبيرية. بمعنى آخر، هناك شكل يدل أو شكل المضمون. والآتي، أن السمات الأسلوبية لا تتحقق فنيا وجماليا إلا بالدمج والتأليف والتركيب بين عناصر لغوية مختلفة، ويشكل هذا ما يسمى بالأدبية عند جورج مولينيي. وهذا ما أثبته أيضا رومان جاكبسون (R.Jakobson) حينما حصر الوظيفة الشعرية أو الجمالية أو الأدبية في إسقاط المحور الدلالي أو الاستبدالي على المحور التركيبي أو التأليفي. أي: الجمع بين الدلالة والتركيب النحوي.

 

3- النص أو فكرة النص: إذا كان الأثر الأدبي أو العمل الفني والجمالي والإبداعي نصا مكبرا (Macrotexte)، فإن النص الأدبي – حسب جورج مولينيي- عبارة عن وحدة خطابية أو نص مصغر(Microtexte). علاوة على هذا، فهو نتاج ثقافي خاضع لعملية الإرسال والتلقي. ويعني هذا أن النص الأدبي نتاج أسلوبية عاملية متعددة الأطراف هي: المرسل والمتلقي والموضوع. ويعني هذا أن النص يشكل ما يسمى بالخطاب الأدبي[6].

 

أما الخطاب الأدبي، فهو عالم سيميوطيقي مركب من عناصر لسانية وأسلوبية مختلفة ومتنوعة، يحتوي على عالمه المرجعي الخاص. كما أنه إنجاز مزدوج.فمن جهة، يرتبط بالمرسل الذي يسنن الرسالة ويشفرها، ويحدد فكرتها العامة، ويصيغ موضوعها المرجعي في علاقة بالمقصدية الرئيسية. ومن جهة أخرى، يقترن هذا العالم العلاماتي بالمتلقي أو المتقبل الذي يؤول النص أو الخطاب الأدبي، ويعيد بناءه في ضوء تفاعل ديناميكي شبقي قائم على لذة القراءة انتشاء وارتواء وإشباعا. ويعني هذا أن الخطاب الأدبي هو ملتقى المقصدية الخطابية والتأويل الخطابي.

 

التدرج في الأدبية:

يرى جورج موليني أن النظام الأدبي خاضع للقياس والتدرج والفحص. ومن ثم، فالأدبية متدرجة في خصائصها ومميزاتها الأسلوبية. إذاً، فهناك أدبية عامة، وأدبية نوعية، وأدبية خاصة. بيد أن هذا التدرج لا يتحقق إلا من خلال العملية التفاعلية التي يجريها المتقبل مع النص، تتسم بالتلذذ والانتشاء والشبقية الجنسية. ويعني هذا أن النص الأدبي يتحول إلى جسد أنثوي يثير اللذة والمتعة الفنية والجمالية. لذا، فالأدبية عبارة عن لذة شبقية ممتعة مفيدة، يشارك فيها المرسل والمتلقي من خلال تلاقي آليتي المقصدية والتأويل.

 

وعليه، فلا يكتفي الباحث باستخلاص الآليات البنيوية لظاهرة أدبية ما، فلابد أن يعتني بأدبية تلك الظاهرة، ففليب هامون (PH.Hamon) في كتابه الذي خصصه للمكون الوصفي[7]، فقد كان يعنى برصد مكونات الوصف الأدبي بنية ودلالة ومقصدية. بيد أن المهم هو تحديد أدبية ذلك الوصف، وتحديد خصائصه الأسلوبية، وتبيان سماته النووية التي يصعب تحويلها إلى سمات ومكونات أسلوبية كونية عامة.

 

• العلاقة بين النص والأسلوب: يتحدد النص أو الخطاب الأدبي بخاصياته الأسلوبية على مستوى الكتابة والتأليف والتنظيم. بمعنى أن فرادة النص تتحقق من خلال مكوناته اللغوية والتركيبية والأسلوبية. وبالتالي، فالنص أسلوب ليس إلا. ويستلزم هذا منهجيا أن يبين المحلل مجمل الأدوات الفنية والجمالية التي استخدمت في تركيب النص وبنائه أجناسيا وأدبيا. وبالتالي، فالأسلوب هو الذي يؤسس النص بناء وتشكيلا ودلالة، ويحدد وجوده وهويته الحقيقية.

 

النص والتقبل:

من المعلم أن النص الأدبي إنجاز تداولي مزدوج، إذ يخضع لعمليتي الإرسال والتقبل، أو لعنصري المقصدية والتأويل. بمعنى أن المتكلم أو المرسل يشفر رسالته أسلوبيا ومقصديا، فيرسلها إلى المتلقي الذي يفك شفرتها عبر فعل التأويل والتلذذ الشبقي. ومن ثم، يمكن الحديث عن بنية عاملية من مستويين: المستوى الأول يتكون من المرسل والمتلقي، والمستوى الثاني يتعلق بالشخصيات داخل النص التي تتبادل الإرساليات بواسطة الحوار والمنولوج والسرد. ويعني هذا أن هناك إرسالا خارجيا يجمع بين المرسل والمتلقي، وإرسالا داخليا يتم بين الشخصيات داخل النص الأدبي، ويتجسد هذا الإرسال عبر مجموعة من التلفظات التعبيرية الدالة على تموقع المتكلم في الزمان والمكان.

 

علاوة على هذا، يقسم جورج مولينيي النص إلى بنية سطحية وبنية عميقة. ومن ثم، ترتبط البنية السطحية بالعوامل الأسلوبية والأنظمة الأدبية الثلاثة. في حين، تقترن البنية العميقة بالجوانب الجمالية والثقافية والإيديولوجية. ويسمى هذا المستوى بمستوى ألفا a) le niveau) أو بالمستوى الثقافي للنص.

 

هذا، و يرى جورج مولينيي أن النص الأدبي بمثابة جسد جنسي شبقي، يثير المتلقي بجماله الإيروسي؛ مما يستوجب ذلك تفاعلا جنسيا ديناميا قائما على اللذة أو الألم. وبالتالي، لن تتحقق المتعة النهائية إلا بالانتشاء والارتواء والإشباع. وهنا، تأثر واضح بآراء رولان بارت ويوس وآيزر. فالقراءة – إذاً- هي عملية جنسية تجمع الجسد النصي بالمتلقي الشبقي. ويعني هذا أن القارئ هو الذي يمد النص بالخصوبة عن طريق النقد والتأويل وإعادة بناء النص. أي: إن لايستمد النص وجوده إلا بفعل القراءة النقدية، والمواكبة الإعلامية، والحصول على الجوائز…

 

إذاً، ينطلق مولينيي من رؤية جسدية جنسية وشبقية في تحليل الأسلوبية العاملية على غرار رولان بارت في كتابه (لذة النص) ومنظري جمالية التلقي أو التقبل[8].

 

التصور المنهجي والتطبيقي:

تعتمد السيميوطيقا الأسلوبية عند جورج موليني (Georges Molinié) على ثلاث خطوات منهجية كبرى، تتمثل في تحديد نظام الأدبية (Le régime de littérarité)، واستخلاص السمات الأسلوبية (Le stylème)، والحديث عن الأسلوبية العاملية (La stylistique actantielle) على النحو التالي:

مبدأ نظام الأدبية:

ينبغي على المحلل السيميوطيقي أن ينطلق في دراسته التحليلية من الوظيفة الأدبية (La littérarité) في ضوء المقاربة الأسلوبية، من خلال التركيز على أنواعها ثلاثة، وهي: الأدبية العامة، والأدبية النوعية، والأدبية الخاصة، على الشكل التالي:

أ- الأدبية العامة (Littérarité générale): يقصد بالأدبية العامة أن الخطاب الأدبي يشتغل بطريقة سيميوطيقية معقدة ومركبة. وبالتالي، فهو يتضمن عناصر لسانية أدبية عامة راقية وسامية ومقننة تميزه عن باقي الخطابات الأخرى، مثل: الخطاب الإشهاري، والخطاب الحجاجي، والخطاب الإعلامي، والخطاب السياسي، والخطاب الاقتصادي…. لذا، يستعمل الخطاب الأدبي معجما معياريا وظيفيا، ويستوجب تأويلات تراعي هذه المعيارية العامة. وفي الوقت نفسه، يحيل الخطاب الأدبي على معطيات لسانية خارجية تتعلق بالمضامين المرجعية، وتحمل في طياتها آثارا أسلوبية خاصة.

 

وعليه، تقصي هذا الأدبية العامة الخطابات الأخرى التي لا تتوفر فيها الوظيفة الأدبية، كالخطاب الإعلامي والخطاب التداولي والخطاب السياسي إلخ… أي: يتميز الخطاب الأدبي، عن باقي الخطابات التداولية الأخرى، بنظامه السيميوطيقي الخاص ومرجعه الإحالي، كأن نميز – مثلا- بين رواية نجيب محفوظ ومدونة قانون السير، أو نميز الديوان الشعري عن القانون الجنائي…

 

ومن هنا، يميز الدارس في تحليله السيميوطيقي والأسلوبي ما هو مشترك وعام وكوني ومعياري بين الخطابات والنصوص الأدبية، مع استبعاد ماهو غير أدبي.

 

ب- الأدبية النوعية (littérarité générique): تعنى الأدبية النوعية بتبيان أدبية النص الأدبية داخليا، واستكشاف عالمه ومرجعه الداخلي باعتباره تجربة ثقافية ورمزية وجمالية وفنية. أي: استجلاء طريقة الكتابة الأدبية في النص أو الخطاب، وكيف يعبر عن رؤيته الإنسانية للعالم. كما تهتم بتصنيف الخطابات والنصوص تصنيفا أجناسيا وتجنيسيا، كأن نميز – مثلا- مسرحيات أحمد شوقي عن قصائده الشعرية، أو نميز روايات بنسالم حميش عن مسرحيات توفيق الحكيم…

 

وعليه، تهتم الأدبية النوعية بالخصائص التجنيسية للنص أو الخطاب الأدبي النوعي. بمعنى أن المقاربة تعنى باستخلاص القواعد التجنيسية التي يتميز بها خطاب أدبي ما عن بقية الخطابات الأدبية الأخرى بنية ودلالة ووظيفة. وبتعبير آخر، تهتم هذه الأدبية بتطبيق نظرية الأجناس الأدبية بكل آلياتها التنظيرية والتطبيقية. أي: تتعلق هذه الأدبية بخاصيات أسلوبية أدبية نوعية مرتبطة بالكتابة التخييلية والسردية وخصوصياتها الفنية والجمالية والأدبية والأسلوبية، كالمقارنة – مثلا- بين وصف نجيب محفوظ ووصف عبد الكريم غلاب.

 

وعلى العموم، يركز الكاتب في هذه المرحلة على استقراء الأدبية الداخلية للخطابات والنصوص، وتبيان مقوماتها الأدبية والجمالية والتجنيسية، وتفكيك عوالمها المغلقة بتمثل جمالية التلقي.

 

ج- الأدبية الخاصة (Littérarité spécifique): بمعنى أن الأدبية الخاصة هي التي تعنى باستكشاف السمات اللغوية والأسلوبية لدى المبدع الفرد، خاصة تلك التي تدل على فردية المبدع وموهبته وعبقريته وتفرده، وتميزه فنيا وجماليا عن باقي المبدعين الآخرين. بمعنى أن هذه الأدبية تهتم بعزل السمات اللغوية الخاصة ذات الطابع الفردي والشخصي، كأن نميز كتابة كلود سيمون عن باقي كتاب الرواية الجديدة الفرنسية، أو نميز كتابة عبد الكريم غلاب عن باقي الكتابات الروائية الكلاسيكية.

 

الأسلوبي أو السمات الأسلوبية (Le stylème):

نقصد بالسمات الأسلوبية تلك الخصائص والمؤشرات التي تميز كل أدبية عن الأخرى، أو تميز نظاما من تلك الأنظمة الأدبية الثلاثة[9]. وغالبا ما ترتبط بالتسنين أو التشفير اللغوي والأسلوبي. بمعنى أنها تعنى باستكشاف الخصائص والمكونات والسمات الأسلوبية التي يتميز بها خطاب أو نص أدبي عن الأخرى على مستوى البناء. بمعنى البحث عن السمات الأسلوبية للأدبية النصية أو الخطابية.وأكثر من هذا، تهتم هذه السمات برصد الآثار الأسلوبية العامة المشتركة، واستجلاء المميزات والتغيرات الأسلوبية الخاصة والمتفردة. وبكل بساطة، يحدد الباحث أو المحلل، على المستوى المنهجي، ما هو ثابت ومتحول من الأساليب والظواهر اللغوية على مستوى الكتابة الإبداعية والأدبية. وهنا، نبتعد كل الابتعاد عن الحديث عن أسلوبية أدبية كونية وعامة.علاوة على ذلك، يبحث الأسلوبي عن مختلف العلاقات النوعية الموجودة بين أنظمة الأدبية الثلاثة.فهناك أسلوبية للأدبية العامة تتمثل في التمييز بين خصائص الروائي وخصائص التجاري مثلا. ويتعلق النوع الثاني بالأدبية التجنيسية، كأن نميز بين النصوص الشعرية، والنصوص السردية، والنصوص المسرحية.بمعنى أن هذه الأدبية مرتبطة بنظرية الأجناس الأدبية.أما النوع الثالث فيرتبط بخصائص ومميزات أدبية الأدب أو النص أو الخطاب الأدبي أو ذلك النص المرصود أدبيا. إذاً، فهناك تدرج مما هو عام إلى ماهو جنسي نوعي، إلى ماهو نصي خاص.

 

الأسلوبية العاملية:

إذا كانت البنية العاملية عند كريماص(Greimas) سداسية الأطراف(المرسل والمرسل إليه، والذات والموضوع، والمساعد والمعاكس)، وإذا كانت البنية العاملية عند جان كلود كوكي (J.C.Coquet) ثلاثية الأطراف(المرسل والمرسل إليه والذات الموضوع)، فإن عاملية جورج موليني ثنائية الأطراف لها ارتباط وثيق بنظرية التقبل أو التلقي أو القراءة، وطرفاها الرئيسيان هما: المرسل والمستقبل. وهما موقعان وظيفيان يثبتهما الكاتب بإحكام وإتقان. وينتج عن هذه العلاقة التفاعلية بين المرسل والمتلقي مستويان: في المستوى الأول، نتحدث عن المحكي بضمير الغائب الذي يحيل على السارد المتكلم أو منتج الخطاب، ويمكن أن يكون السارد متعددا. أما المستوى الثاني، فيتعلق باستخدام الأسلوب المباشر(الحوار)، والأسلوب غير المباشر، والأسلوب غير المباشر الحر. وهو مستوى مستقل عن الأول، ويتعلق بالتفاعلات أو التبادلات الأسلوبية داخل النص أو الخطاب الأدبي، خاصة تلك التي تقوم بين الشخصيات.

 

المصطلحات النقدية:

تعتمد المقاربة السيميوطيقية الأسلوبية على مجموعة من المصطلحات الإجرائية والمفاهيم النقدية التطبيقية هي: النص، والخطاب، والإبداع، والمضمون، والأسلوب، والأسلوبي، والنص المكبر (macrotexte)، والنص المصغر(microtexte)، والأدبية، والأدبية العامة، والأدبية النوعية، والأدبية الفردية، والعاملية الأسلوبية، والوجداني، وآثار الفن، والجسد الجمالي، والجسد النصي، و الفكر الجسدي، والمرسل، والمتقبل، والسمات الأسلوبية، والفكر الجسدي، والنشوة، واللذة، والشبقية، والألم، وتنظيم المحتوى، والشكل الأدبي، ودلالة الأشكال، والتحليل العاملي، والنظام العاملي، ودور المبدع والمتلقي، وأسلوبية الجملة، وإيقاعية الجملة، والإيقاع الصاعد المتنامي، والإيقاع العنيف، والبعد التداولي لعملية التواصل النصي، والعالم، والعالم المتمدن، والعالم المتطرف، والوهم الزائف…

 

الخاتمة:

وخلاصة القول، يتبين لنا، مما سبق ذكره، بأن السيميوطيقا الأسلوبية هي فرع من فروع السيميوطيقا النصية، مادام هدفها هو تحليل الخطاب أو النص الأدبي من خلال الجمع بين آليات المقاربة الأسلوبية والمقاربة السيميوطيقية ومبادئ جمالية التلقي أو التقبل، والتركيز على نظام الأدبية بأنواعها الثلاثة: الأدبية العامة، والأدبية النوعية، والأدبية الخاصة، مع الاهتمام بالسمات الأسلوبية والبنية العاملية الأسلوبية.

 

وعليه، إذا كانت الأدبية العامة تتحدد بمقاييس أدبية معيارية عامة ومشتركة، فإن الأدبية النوعية تقتصر على فعل الكتابة من خلال خصائصها النوعية والتجنيسية. أما الأدبية الخاصة، فتحيلنا على قولة بوفون (Buffon) المشهورة: “الأسلوب هو الكاتب نفسه”.

 

ويلاحظ على السيميوطيقا الأسلوبية أنها مقاربة مركبة وانتقائية وتوفيقية، تجمع بين مجموعة من التصورات النظرية السيميائية والشعرية والجمالية والأسلوبية التي قد تتناقض مع بعضها البعض في بعض الأحيان. فالسيمويطقا السردية عند كريماص لاتعتد بماهو أسلوبي، إذ تعتبره من مكونات البنية الظاهرية على مستوى السطح. في حين، تهتم بماهو سردي سطحا وعمقا. وهذا ما يجعل مقاربة جان مولينيي مقاربة نصية مركبة وانتقائية وتجميعية، تفتقر إلى تصوراتها العلمية والمنهجية الخاصة بها. بمعنى أن هذه المقاربة عالة على باقي المقاربات الأخرى، كاللسانيات، والبلاغة، والسيميوطيقا، وجمالية التقبل. وهذا ما يجعل النقاد يتشككون في علميتها وموضوعيتها وخصوصيتها واستقلاليتها، مادامت لم تبين موضوعها بدقة كباقي المقاربات النقدية الأخرى. علاوة على ذلك، أنها لم تحدد منهجها النقدي الخاص بها تنظيرا وتطبيقا. وبالتالي، فهي تفتقر إلى مصطلحاتها الإجرائية المتعلقة بها[10].


[1] Molinié.G: La stylistique, Paris, PUF, 2004.

[2] Molinié.G. Et Mazalyrat.J: Vocabulaire de la stylistique, Paris, PUF, 1989.

[3] Molinié G.:Sémiostylistique ,l’effet de l’art, Paris,PUF.1998.

[4] Molinié.G. Et Viala.A: Approches de la réception, Paris, PUF, 1993.

[5] Molinié G.:Hermès mutilé,vers une herméneutique matérielle,Paris,France Honoré Champion,2005.

[6] Molinié George:(Introduction à la Sémiostylistique.L’appréhension du Texte.)

[7] Hamon, PH: Du Descriptif, Hachette, 1981; 1993.

[8] Barthes,Roland: Le plaisir de texte, collection Tel Quel,ED.Seuil, Paris, France, 1973.

[9] Molinié.G. et Viala.A: Approches de la réception, Paris, PUF, 1993.

[10] René Pommier .(Nouvelle stylistique ou nouvelle imposture), http://rene.pommier.free.fr/Stylistique.htm#_ftn1

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/62750/#ixzz5TqQ0Dxkc

بختي ضيف الله المعتزبالله

شاعر وقاص جزائري. مشرف على عدة مواقع إلكترونية، إخبارية وأدبية.
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x