نقد

مرايا عاكسة

ماركيز مهندسا

السعيد بوطاجين

 

اكتشفت مؤلفات الروائي الراحل غابريال غارسيا ماركيز في مطلع الثمانينيات تماما، وفي تلك الفترة تحديدا قرأت جلّ أعماله الأدبية المتنوعة وقدَمتها في حصص تطبيقية بالجامعة المركزية رفقة الشاعر والمترجم السوداني عبد الرحمن جيلي. لقد قرأت كلّ ما كتب إلى غاية تلك الفترة التي كنا فيها مدمنين على متابعة الهالات الإبداعية العالمية التي كانت تستوردها بعض مكتبات الجزائر العاصمة، ومنها مكتبة الحزب التي كانت منارة للباحثين والطلبة، قبل أن تتحوّل إلى مقهى، كما المكتبات الأخرى التي أدارت ظهرها للثقافة.
بقيت في ذاكرتي أشياء كثيرة من كتابات هذا المؤلف لأنها وجدت لنفسها مكانا في الذاكرة كنماذج يصعب نسيانها بسهولة، مهما فعلنا. يحضرني في هذا السياق ما وقع للروائي الأمريكي همنغواي في محطة ليون بباريس. كان يحمل في حقيبته مجموعة من المخطوطات، وهي عبارة عن محاولات وقصص ومسودات لم تكتمل بعد، وقد اعتقد أحد اللصوص أن بها أشياء ثمينة فسرقها منه.
حزن السيد إرنست همنغواي للحظة، ثم سرعان ما استدرك بنوع من الواقعية والعبقرية، وقال لنفسه إن السارق لم يأخذ، في نهاية الأمر، سوى الأشياء التي لا تهمني، أي الكتابات السطحية التي جاءت بشكل استعجالي، أمّا الأشياء المهمة فستظل راسخة في الذاكرة إلى الأبد. تحدث عن ذلك في كتابه الفاخر: باريس عرس، بنوع من البهاء النادر. كذلك يحدث لنا مع بعض الكتابات التي لا تقول شيئا مهمّا، ستدخل في طبقة النسيان، دون أن تترك ذكرى.
الأمر يشبه علاقاتي بغابريال غارسيا ماركيز وبعض الكتّاب الذين انمحوا من البال بسرعة. يحدث أن أقرأ عشرات الكتب وأنساها مباشرة بعد أيام، أو بعد ساعات، إمّا لأنها سطحية جدا وفقيرة إلى الجمال، وإمّا لأنها تتجاوز قدراتي العقلية، وإما لأنها لا تنسجم مع ذائقتي الفنية، أو لأنها تدّعي ما تدّعيه بدعم من الإعلام والنقد الموالي، دون أن يكون لها وزن فعلي في عالم السرد لأنها فجة، وليست ذات شأن يذكر. أَمّا كتب ماركيز فهي من ذلك النوع الذي يفرض نفسه عليك، كما كتابات بعض الموهوبين الذين شحذوا تجاربهم ومعارفهم السردية حتى أصبحوا كتّابا، بالمفهوم الحقيقي للكلمة، وليس بمفهوم الأدب المنتفخ الذي يؤسس على الدعاية.
اكتشفت بعد سنين، عندما قرأت كتابه الموسوم عشت لأروي، أنّ هذا الشخص الاستثنائي في تاريخ السرد خلق فعلا ليكون كاتبا من الطراز الرفيع، كاتبا أو صحفيا متميزا عن الآخرين، أو ساردا بشكل عام، وهو يستحق صفة كاتب عن جدارة، ليس لأنه ألّف مجموعة من الكتب التي ترجمت إلى مختلف اللغات العالمية، بل لأنه كتبها بنوع من العبقرية التي لا تضاهى في تاريخ البشرية برمتها. لقد ألّف أهراما حقيقية، شامخة ومضيئة.
يخطئ من يركز على رواية مائة عام من العزلة التي قام فيها بتقوية عناصر الواقعية السحرية بابتكار تقنيات إضافية، ولم يخلقها كما هو شائع اليوم في بعض الكتابات والأحاديث غير المؤسسة تاريخيا وأدبيا. لقد قال هو نفسه في حوار أجرته معه مجلة ماغازين ليتيرار الفرنسية قبل ست وثلاثين سنة (1982) بأنه استفاد كثيرا في هذه التجربة من كتاب ألف ليلة وليلة، وفق منظوره، ووفق ما كان يحتاج إليه في مؤلفه الذي سيشهد إضافات ومتغيرات سردية.
لا يمكن، بالنسبة للمطلع على أعماله المتفاوتة تقنيا وموضوعاتيا، أن يختزله في هذه الرواية المثيرة التي جنت عليه كثيرا لأنه، عكس ما نمرره من أحكام باهتة، أكبر منها ومن مدرستها. ماركيز هو هذا الإبداع الشامل المتماسك، المتكامل، ذاك الذي يتجاوز نفسه باستمرار دون أن يلغيها. إنه كلّ ما كتبه بوعي، دون استثناء، وليس عملا واحدا. كان ماركيز مشروعا أدبيا كبيرا، ورؤية سردية واعية بصيرورتها.
رواية لا أحد يراسل الكولونيل، على سبيل التمثيل، هي أحد هذه النماذج الروائية المربكة التي يمكن قراءتها عدة مرات لأنها تحفة أدبية لا يمكن أن نقفز عليها، رغم أنها بسيطة، شأنها شأن وقائع موت معلن أو وفاة الجدة ميمي أو الحب في زمن الكوليرا، وغيرها من النصوص المدهشة في بساطتها وتعقيداتها. كيف استطاع ماركيز أن يكتب بتلك الطريقة التي ستؤثر في كثير من الآداب الأمريكية والأوربية والعربية؟
يجب علينا، لفهم ذلك، قراءة كتابه عشت لأروي من أجل معرفة جزء معتبر من فلسفته السردية الراقية التي أسست على الذات، وعلى الخصوصية. يجب أيضا أن نفهم كيف أعطى للكتابة المحلية بعدا عالميا، وهذه ميزة أساسية. لقد فعل ذلك كما فعل الشاعر الهندي طاغور، وكما فعل القاص الروسي أنطوان تشيكوف، أو الكاتب التركي عزيز نسين. كان الناقد إيطالو كالفينو يتحدث في كتابه ست وصايا للجيل القادم عن النص المؤثث الذي لا يكتفي بالحكاية وحدها. يذكرني هذا بمؤلف الكاتب الأمريكي هنري ميللر: *الكتب في حياتي*. شيء عظيم حقا.
لقد أثث غابريال غارسيا ماركيز إبداعاته بما توفر في محيطه بالدرجة الأولى، كما تعكس ذلك كلّ الروايات الخالدة، دون تمييز، وهناك تجربته الشخصية التي لا يمكن نسيانها، في كولومبيا والمكسيك وفرنسا وفي بعض البلدان التي زارها، ثم خبرته الصحفية المتقدمة. تضاف إلى هذه العناصر ثقافته وزاده المعرفي واستفادته من الكتابات الراقية التي تأتي في درجة مهمة، إن نحن أسسنا على محمولات نصوصه وطرائق تشكيلها.
كان ماركيز، في واقع الأمر، ساردا مجتهدا، مهندسا بارعا، وحاذقا، بحيث يمكن تشبيهه بفلاح صيني ليست له سوى يديه وقطعته الأرضية التي تعيله، وكان عليه أن يهتم بها، كما يليق بحضرة الأرض العظيمة. لقد أولى أهمية كبرى للفظة والجملة والفكرة والبنية والهوية السردية والإيقاع والمعنى والموضوع والمرجع والخيال والصيرورة. ما يعني أنه عاش مثل مؤسسة محترفة لها عالمها الخاص الذي لا يتكرر، كما كان يمثل نفسه أحسن تمثيل. أي أنه لم يعش ظلا للآخر، للوافد، للتجارب الغيرية، أو صورة باهتة ناتجة عن محاكاة خافتة للجهد المستورد الذي يأتي في سياقات مخصوصة لها ظروفها وحجتها ومقاصدها وسياقات إنتاجها. أؤكد دائما على العنصر الأخير الذي يبدو لي قاعديا، وضروريا في أيّ عمل إبداعي يحترم الهوية السردية لأنها جوهر ثابت.
رحل ماركيز وقد شرّف اسمه وبلده والجنس البشري الذي ينتمي إليه، كما شرّف أدب كولومبيا وأمريكا اللاتينية والعالم بإبداعاته العارفة التي اجتهدت مثل العبيد القدامى وقدّمت للإنسان هالات يفتخر بها اليوم وغدا. لتهدأ روحه هناك، ولترفرف حولها فراشات الخلق لأنه يستحق كلّ الامتنان والعرفان، هو الذي تربى فقيرا ومتجوّلا في عالم الربّ، قبل أن يصبح من أرقى الساردين وأبرزهم، دون ادعاء، ودون جعجعة لفظية، كما قد يحدث اليوم في عالم الكتابة الصغيرة، تلك المولعة بالصخب والمغالاة في حبّ الذات، في هذه الأنانية المقيتة، وفي تقليد ما أفرزته حضارات الآخرين وآدابهم المحلية.

 

المصدر:https://www.eldjoumhouria.dz/art.php?Art=50056&fbclid=IwAR3BOUV-kG32xR2VR8B2-l_cn_bSH3iw3n8vV-cBZ-nobgZEJRxEWjzzpi8

بختي ضيف الله المعتزبالله

شاعر وقاص جزائري. مشرف على عدة مواقع إلكترونية، إخبارية وأدبية.
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x